عودة أنوبيس
جبانة جاليات الإسكندرية
بقلم :
الزهراء عوض
و سالي سليمان
مصدر الصور : زهراء عوض و بعض الصور من النت
مثل أجساد جميلة ، لم تدركها الشيخوخة
ذرفت عليها الدموع
وهي تواري ضريحا فخم البناء
على الهامات نضدت ورود
ونثر الياسمين عند الأقدام
مقتطف
من قصيدة رغبات للشاعر كفافيس
حينما تتجول في مدينة الإسكندرية و تشاهد مبانيها
التراثية و تقرأ أسماء شوارعها ، تختلط رائحة البحر بموج الذكريات ، تتمنى أنك عشت
يوماّ لتقابل من بنى هذه الفيلا أو ذاك القصر ، أو اقتربت لتشاهد من تسمّى بإسمه
أحد شوارعها ، أو أن تكون من معاصري أحداث سَطٍرت على جدران ذاكرة المدينة ... لا
تندم سنأخذكم قراءنا الأعزاء لنقابل بعض هذه الشخصيات لكن ليس في قصورهم ...بل لنقف أمام قبورهم ومنازلهم الأبدية ، لنحيي
ذكراهم وفاءاّ لهم ، و لعشقهم لتلك المدينة الساحرة التي سحرتنا كما سحرتهم فدفنوا
في ترابها كما عاشوا على أرضها.
الإسكندرية الكزموبوليتانية التي انصهر بها أجناس شتى من بقاع الأرض ، تلك
المدينة التي تسمع فيها الكثير من اللغات
و ترى فيها جميع الوجوه .
مدينة الرب ، الإسكندرية عاش بها منذ اّلاف السنين يونان و رومان و مصريون
و عرب ثم وفد عليها منذ مئات السنين يونانيين و بريطانيين و ايطاليين و شوام
وجنسيات وطوائف اخرى اختلطوا مع المصريين تمازجوا و تعايشوا ، كل يحترم عادات و
تقاليد الاّخر و يقتبس من لغته و عاداته ما يناسبه ، يبني بينهم جسراّ للتعايش و
في نفس الوقت يبقي خصوصية إثنياتهم و يفسح لهم المجال للمحافظة على خصوصياتهم سواءاّ
العرقية أو الدينية .. معادلة صعبة و لكن الصعب سهل في مدينة الرب الإسكندرية .
في رحلة بحثية تجولنا لنلتقط ذكريات المدينة بالصورة نوثق بها لقطات قد
تبدو حزينة ، و لكنها في الحقيقة بعث لذاكرة المدينة فبين المقابر تلونا صلوات
الرحمة على ما افتدقناه الاّن قبول الاّخر ..وقفنا نستمد منهم طاقة التسامح و نبعث
أرواحهم السمحة لنستقوي بها على أوجاعنا من حال تراث مدينة الرب .
نقابل من مضى نشكره على جمال تركه لنا ، و نحاول جاهدين الحفاظ عليه ، نضعه
بين أيديكم لتشاركونا شغفنا بالماضي الذي نريد الحفاظ عليه لأجيال قادمة تحمل
بعدنا شعلة الحفاظ على التراث و تعي دروس الماضي ، علّ ماضي المدينة و بوتقتها السحرية
تصهرنا بالحب مرة أخرى ، و تضفي علينا الجمال و الإبداع و تزيح غلالة القبح التي
سيطرت على مدينتنا ولتبقى الاسكندرية مدينة ضد العنصرية.
ركزنا على القرنين التاسع عشر و العشرين حيث تبلغ المدينة أسمى درجات
التنوع العرقي و تفاعل هذه الجاليات معاّ ليبدعوا في شتى المجالات ، أصبحت
الإسكندرية عاصمة مصر الحضارية مرة أخرى و العاصمة الثانية لمصر بعد القاهرة .
مقابر الإسكندرية ليست أي مقابر بل هي متحف مفتوح ، يوثق تاريخ و عائلات عاشت
هنا أثرت و تأثرت .
منذ القرن التاسع عشر حيث منح محمد على
باشا ومن بعده حفيده الخديو اسماعيل أراضي الجبانات بمنطقة الشاطبى فقسمت على حسب
الملة والطائفة فتوجد مقابر اللاتين ، ومقابر اليونانين تديريها الجمعية اليونانية
وتوجد مقبرة الأرمن ،ومقابر الأنجليز البروتسانت ، ومقابرالكومونولث لجنود الحرب
العالمية الأولى والثانية ، وتوجد مقابر لليهود ،ومقابر للشوام ،ومقابر الفرنسيين ،ومقابر
للأقباط الأرثوذكس ،والطائفة الانجيلية ، والكاثوليك وهذا
يعبر عن مدى احترام الاديان والثقافات ، و امتزاج الفنون .
كما عاشوا دائماّ جنباّ إلى جنب دفنوا متقاربين ...
ضمت الجبانات رفات أشهر شخصيات عاشوا بالاسكندرية وعلى سبيل المثال
وليس الحصر:
مقابر الجريك أرثوذوكس :
شاعرالإسكندرية الأول الشاعر
اليونانى قسطنطين كفافيس :
قال عن الإسكندرية : (أي مكان أجمل
من هذا يمكن أن أستقر فيه، وسط مراكز الوجود هذه مبغي وكنيسة للغفران، ومستشفي
يموت المرء فيه )
ولد قسطنطين بيير كفافيس في الإسكندرية في 17 ابريل 1863 ، وفي عام 1908 استأجر منزلا فى 10 شارع لبسيوس ، ثم تغير اسم الشارع لشارع شرم الشيخ ، ثم مرة أخرى تغير ليحمل اسم كفافيس.
عاش وحيدا في هذا
المنزل حتى وفاته عام 1933 م و دفن كفافيس في مقبرة الأسرة في مدافن
اليونانيين بالإسكندرية.
بفضل الجهد
المتواصل الذي قام به الشاعر اليوناني كوستيس موسكون، ضمن نشاط المؤسسة الهيلينية،
مع آخرين من محبي شعر كفافيس (الذى ترجم شعره إلى معظم لغات العالم ) ومؤسسات
ثقافية يونانية أخرى تم تجديد البيت الذي عاش فيه كفافيس وصار المنزل متحفا ومكتبة
تخليداّ لذكرى كفافيس .
قال كفافيس فى قصيدة قبر ياسيس ( و كأنه يتحدث عن نفسه ) :
قبر ياسيس
أنا ياسيس أرقد
هنا فى هذه المدينة.
أرقد فى هذه
المدينة العظيمة كنت مشهوراّ بوسامتي اعجب بي الحكماء وذو الفطنة ، كما أعجب بى
الأجلاف من العامة
وكنت أطرب
لإعجاب هؤلاء وهؤلاء وعلى مدى الزمن ولكثرة ما لعبت دور ناركسيوس وهرميس ونضبت
الدماء فى عروقى وأصابني الدمار.
يا أيها المسافر اذا كنت سكندرياّ فلن تلومني .
شاهد قبر الشاعر كفافيس
و تـأخذنا دوامات الذكريات ان نبحث و نجد قبر المليونير الشهير و الذي ترك
لنا قصراّ و حدائق ما زالت تحمل اسمه أنطونياديس ، و إلى جوارهم قبر عائلة انسطاسي
و هي عائلة يونانية تحمل بعض شوارع الأسكندرية اسمها إلى الاّن ، و من مر أو تعامل
مع مستشفى عبد الناصر بالإسكندرية فيجب أن يعرف أن مؤسسها كانت عائلة كوتسيكا
اليونانية و كانت تسمى المستشفى اليوناني ، أما عائلة سلفاجو صاحبة قصر
سلفاجو ( المركز الثقافي الروسي الاّن ) فهي أيضاّ في نفس الجبّانة المتحفية ، كما توجد
مقبرة عائلة بيناكى اليونانية من أشهر السياسيين فى اليونان ومؤسس ملجأ بيناكى
بالشاطبى الذى تحول منذ عام 1971 م ليصبح مقر للقنصلية اليونانية بالثغر .
قصر و حدائق المليونير أنطونياديس
شاهد قبر أنطونياديس
يجاور هؤلاء سياسيين
يونان من أمثال راللي و أفيروف وتمفاكو صاحب قصر تمفاكو بمنطقة الفراعنة حيث يقع
مبنى اداراة اأتيلية الأسكندرية للكُتاب والمثقفين الذى تناولنا قصته وتاريخه من
قبل ، و كأنك حين تتجول بين شواهد قبورهم البديعة تسمع حواراتهم و ضحكهم كما لو
كانوا في اجتماع في النادي اليوناني .
فترتسم بسمة على شفتيك و تكمل رحلة البحث عنهم ...
لا يمكنك و أنت في مقابر اليونانيين إلا أن تقف مشدوهاّ
أمام مقبرة الملاك الحارس لعائلة زرافودكي صاحب شركة الزيوت و الصابون و صاحب
القصر الشهير بزيزينيا الاّن
يشغله مدرسة الرمل للبنين ، و لشاهد قبر عائلة زرافودكي قصة حيث ماتت الإبنة
الرقيقة الصغيرة إيرين متأثرة بمرضها في سويسرا فحزن أهلها حزناّ كبيراّ و قررا
تشيد هذه المقبرة لتخلد ذكراها في سنة 1880 م فصنع تمثال على هيئة ملاك حارس من
افخر أنواع الرخام و تم نحته في فرنسا و يضع التمثال سبابته أمام شفتيه اّمراً من
حضر بالصمت لكي لا يوقظ الصغيرة إيرين الراقدة خلفة في سلام . تلتزم الصمت و تمشي
على أطراف أصابعك كي لا توقظ الصغيرة النائمة فللحزن جلال .
شاهد قبر إيرين زرافودكي و ترقد بسلام و أمامها الملاك الحارس الذي يأمر بالصمت
مقابر اللاتين
:
ونتجول
بين الجبانات لنقرأ اسم العالم الأثري
بوتي أول مدير للمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية ، المدفون في تابوث أثري من
الجرانيت الأحمر تنفيذاّ لوصيته ، ويقابله تابوت اّخر مماثل له حيث ترقد زوجته ، وكان
بوتى صاحب بداية استكشافات عدة فى الاسكندرية مثل بداية اسستكشاف مقبرة كوم
الشقافة وعمود السوارى ، وصاحب أول كتالوج للمتحف اليونانى الرومانى عام 1900 م ومدفون
بمقابر اللاتين بالاسكندرية. كما توجد
مقبرة الايطالى فليبو بينى الذى قام
بتخطيط شارع فؤاد وكذلك عائلة بهنا وهى من اشهر العائلات التى عملت بالانتاج
السنئمائى فى أوائل القرن العشرين وصاحبة واحدة من اكبر مكتبات توثيق تاريخ
السنيما فى مصر.
العالم الاثري جوزيف بوتي أول مدير للمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية
تابوت الجرانيت الأحمر الأثري المدفون به العالم الاثري جوزيف بوتي
مقابر الروم كاثوليك :
صورة كارت بوستال لمقابر الروم كاثوليك تعود إلى الربع الأول من القرن العشرين
وهناك مقابر الروم الكاثوليك حيث قبر
المخرج المصري الشامى الأصل يوسف شاهين ، و وشلهوب عائلة الممثل العالمى الشهير
عمر الشريف. وكذلك مقبرة أسعد باسيلي صاحب قصر باسيلي و هو نفس القصر الذي تحول
إلى متحف الإسكندرية القومي .
قصر باسيلي ( المتحف القومي الاّن بالإسكندرية )
الفنان عمر الشريف حيث توجد مقابر عائلته عائلة شلهوب في مقابر الروم كاثوليك
المخرج المصري الشامي الأصل يوسف شاهين و هو مدفون في مقابر العائلة جبانة الروم كاثوليك
مقابر اليهود :
حيث يرقد عائلات اجيون ، و منشا ، و رولو
، و جرين ، و سوارس ، و بانون ،و حبيب ، وغيرهم ، من أشهر عائلات الجالية اليهودية
بالإسكندرية الذين عاشوا بالمدينة قرون عدة وما زالت شوارع المدينة وبعض من
مبانيها تحمل اسمائهم .
مدخل مقبرة عائلة حبيب توليدانو بمقابر اليهود
تقع مقابر الجاليات بين
شارع قناة السويس وشارع أنوبيس بالشاطبى أمام قسم باب شرق وتمتد من الترام إلى
طريق الحرية م لكل طائفة قسم منها .
في سنة 1858م قرر مجلس البلدية تسمية الشارع باسم أنوبيس حارس
الجبّانة و إله المصري القديم لأن الجبانات تطل عليه ، فحين اختاروا الإسم كانوا
يأملون أن أنوبيس لن يترك الجبانات من غير حمايته ، و من العجيب أن بعد بعض
الانتهاكات و السرقات التي تمت لشواهد القبور تقرر الداليات عدم السماح لأحد إلا
بتنسيق مسبق معها ، كما وضعت كل جالية كلباّ أسود اللون مع حارس الجبّانة يهاجم كل
من يتسلل إليها .
عاد أنوبيس من رقدته الطويلة ليحمي ما تبقى من روعة شواهد قبور
الجبانات.
تقسيم جبانات الجاليات و الطوائف في الإسكندرية خريطة من مركز الدراسات السكندرية
هكذا طفنا سريعاّ لنتعرف على بعض من لم يسعفنا الوقت لنراهم
رؤيا العين فرضينا أن نرى شواهد قبورهم .
قصيدة أصوات
أصوات
خفية حبيبة
أصوات أولئك الذين ماتوا،
أو أولئك الذين هم بالنسبة إلينا ضائعون مثل الموتى ،
تتكلم في حياتنا أحيانا ،
وأحيانا في الفكر يسمعها العقل.
ومع أصدائها
.. تعود برهة أصوات من قصائد حياتنا الأولى ،
مثل موسيقى
.. بعيدة في الليل تخبو .
أصوات أولئك الذين ماتوا،
أو أولئك الذين هم بالنسبة إلينا ضائعون مثل الموتى ،
تتكلم في حياتنا أحيانا ،
وأحيانا في الفكر يسمعها العقل.
ومع أصدائها
.. تعود برهة أصوات من قصائد حياتنا الأولى ،
مثل موسيقى
.. بعيدة في الليل تخبو .
كفافيس
مصادر المقال :
توثيق زهراء عوض و
مقابلات شخصية مع من تبقى من عائلات الجاليات الأجنبية المقيمة في الإسكندرية .
مركز الدراسات
السكندرية
فعلا سرد التاريخ بشكل رائع و يجعلك كأنك تعيش هذا التاريخ بمخيلتك نتيجه السرد الشيق . شكرا لكم
ردحذفأحمد حسن